نور الدين حجّاج
كاتب من حي الشجاعيّة في غزّة، مؤلّف مسرحيّة “الرماديّون” ورواية “أجنحة لا تطير” وأعمال أدبيّة أخرى. استشهد في قصفٍ على حيّ الشجاعيّة يوم 2 ديسمبر 2023.ا
نُشر في 16 أكتوبر، 2023
يوميات النزوح في الجنوب.ا
الجانب الآخر من الموت والدمار والخوف.ا
أغفو في الرابعة، أستيقظ بعد دقيقة واحدة وتكون جاوزت السادسة، اذهب إلى المخبز فأجد أمامي طابورًا بشريًا طويلًا، بعد ثلاث ساعات ونصف أكثر مما نمت، يصل دوري، يخبرني أنه غير مسموح بأكثر من ربطة خبز واحدة، أشرح له وضعي فلا يستمع، أخبره أننا نازحون وعند عائلة هنا ويصل عددنا إلى سبعين شخصًا مع الأطفال، وربطتين اثنتين من الخبز لا تكفيان، فيخبرني أن أعود وأقف بآخر الطابور إن أردت المزيد، آخذها وأتحسبن وأمضي..ا
أصل البيت بعد ثلاثون دقيقة من المشي، يخبروني أنهم يريدون ماء، آخذ الجالون وأذهب لمحطة التحلية القريبة، أقف في طابورٍ جديد أطول من الأول، بعد ثلاث ساعات يصل دوري. أعود للبيت بعد يومٍ طويل، نخبر الأطفال أن كاسة مياه واحدة تكفي ولا تهدروا المياه.. أضع جسدي على الأريكة كيّ أستريح قليلًا فيخبروني أن موعد العشاء قد حان ويريدون خبزًا وبعض المأكولات من السوبرماركت، لأستكمل المزيد من الطوابير والانتظار وانعدام الحد الأدنى من الحياة الإنسانية.ا
في المساء، أتوعدهم أني سأعود للبيت في الشجاعية صباحًا لكن بعد عشر دقائق نعيد تقسيم المساحات واستغلال كل شبر كي ينام فيه طفل أو شخص ما، حتى الممرات وعند الباب، نغطي أرضية الشقة الصغيرة جدًا بالأجساد الثلاثون، نتأكد أن الصغار والنساء قد أخذو أمكنتهم، ونتوزع نحن، شخص ينام وآخر على الأريكة، واثنان يسهران فيما لو حدث شيء لا قدر الله كي يوقظ البقية بسرعة، مع أننا لا نحتاج ذلك، فبعد ربع أو نصف ساعة من النوم سيستيقظ الجميع على صوت قصف مدوي، ويبكي الصغار قبل أن ترد أمهاتهم نومهم ... وهكذا.. حتى يشرق الصباح حتى أكرر الدائرة المفرغة.ا
الأوّل من نوفمبر، 2023
مساء الخير أيها العالم.ا
انقطعت الاتصالات والانترنت ليلة البارحة، وما اعتبرته في أحد المرات مستحيلًا صار واقعًا فجأة ولكن بظروف أخرى، فساعي البريد لن يستطيع القدوم في ظل هذا القصف والدمار، كما أن جرائده لن تحمل سوى نفس الخبر كل يوم: "إن غزة تُباد. والحياة تغيب عنها كل يوم دون أن تشرق في اليوم التالي"، وربما خبر موتي سيصدر في النسخة القادمة..ا
هذا ما طرأ في بالي لحظة انقطاع الاتصالات والإنترنت، ومعها انقطعنا عن العالم، وانقطع العالم عن معرفة أخبارنا، وازدادت حدة القصف لنضع أيدينا على قلوبنا لأن ما نخافه ها هو يقترب، سنموت بصمت دون أن يعرف عنا العالم شيئًا، حتى أننا لن نستطيع الصراخ ولا توثيق لحظاتنا، أو كلماتنا الأخيرة..ا
فأنا أعيش في حي صغير يسمى حي الشجاعية، وهو حيٌ يقع على الحدود الشرقية لمدينة غزة، وفي كل ليلة لا تتوقف أصوات الانفجارات بأنواعها المختلفة ومن كل الاتجاهات، لذلك نحتضن بعضنا مع كل صوت ضخم يهز بيتنا وقلوبنا، ونحن نعلم أن واحدة من تلك الأصوات لن نسمعها لأنها ستكون قد انفجرت بنا.ا
ولهذا أكتب الأن، لربما تكون هذه رسالتي الأخيرة التي تجوب العالم الحر، وتطير مع حمام السلام، وتخبره أننا نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلًا، لكن في غزة تقطعت كل السبل والطرق، وصرنا نبعد عن الموت مسافة خبر عاجل أو تغريدة صغيرة.ا
حسنًا .. سأبدأ.ا
أنا نورالدين عدنان حجاج، كاتب فلسطيني، وعمري سبعة وعشرون عامًا ولي أحلام كثيرة.ا
أنا لستُ رقمًا وأرفض أن يكون خبر موتي عابرًا، دون أن تقولوا أني أحب الحياة، السعادة، الحرية، ضحكات الأطفال، البحر، القهوة، الكتابة، فيروز، وكل ما هو مُبهج.. قبل أن يختفي كل هذا بلحظة واحدة..ا
أحد أحلامي أن تجوب كتبي وكتاباتي العالم، أن يصير لقلمي أجنحة لا توقفها جوازات سفر غير مختومة ولا فيز مرفوضة.ا
حلمٌ آخر .. أن يكون لي عائلة صغيرة، وأهدهد ابني الصغير الذي يشبهني بينما أخبره قصة ما قبل النوم.ا
ويظل حلمي الأكبر .. أن يعم السلام بلادي، أن تشرق ضحكات الأطفال قبل الشمس، أن نزرع وردة في كل مكان سقطت فيه قنبلة، ونرسم حريتنا على كل جدار تهدم، أن تتركنا الحرب وشأننا؛ لنعيش أخيرًا حياتنا ولمرة وحيدة.ا
نورالدين حجاج
28/10/2023 غزة - فلسطين
نُشر في الثاني من نوفمبر، 2023
قمت بأخذ جولة صغيرة في المدينة اليوم، أو لنقل ما تبقى منها!ا
شاهدت كيف اختزلت الألوان في لون واحد فقط،ا
من أين للون الرمادي أن يمتلك سطوة الحضور على كل الألوان التي نعرفها، إلا لو كان محملًا بأطنانٍ من المتفجرات!ا
ومشيت فوق ركام كثير، وحاولت أن أتحاشى بخطواتي مثل حقل ألغام كل ما كان ذكريات لأطفالٍ صغار رسموا أحلامهم فوقها، ولم أخف من أن أمسك بيدي أسلاك الكهرباء المتقطعة في الشوارع لأنها لم تعد سوى مشانق إعدام، شاهدة على كل هذا الدمار.ا
شاهدت جبالٌ من الأكفان تسير بهم سيارة واحدة للمكان الآمن الوحيد والأخير على هذه الأرض.ا
لا جنازات تحمل الشهداء على أكتافها وتزفهم لمأواهم الأخير، لأن كل عوائلهم ترافقهم للقبر .. شهداء مثلهم..ا
ربما كانت دعواتهم الأخيرة قبل القصف -مثلما نفعل كلنا-، إن قدر لنا أن نموت، فلنمت معًا، لن نترك للموت احتمالات أن يظل أحدنا ويتحسر بقية عمره على البقية..ا
وفي مدرسة للنازحين التي مررتُ بها، أُدمي قلبي كيف للإنسانية أن تُنتهك، وكيف تختزل حاجاتنا الأساسية، ويتم المساومة على جالون واحد من المياه، أو حبة دواء.ا
آخرون.. يسعون في الاتجاهات الأربعة بحثًا عن ربطة خبز واحدة، أو شحنة كهرباء لبطارية الإنارة قي الليل، أو مياه صالحة للشرب، أو أشياء أخرى أساسية لم تعد موجودة!!ا
كل هذا في جولة صغيرة لم تزد عن ثلاثون دقيقة، في شارعين متجاورين، لم تحتمل معظم المنازل فيهما من تحمل الضربات فوق أسطحها فأجثت على ساكنيها وهوت في الأرض..ا
يالله، حجم الكارثة كبير، وتعجز عنه الكلمات والصور، ولم نعد نحتمل كل هذا...ا
تعبنا يالله، لينتهي كل هذا عاجلًا ليس آجلًا.. يارب
يوم 2 ديسمبر 2023، استشهد نور الدين حجّاج بعد أن قصفت الطائرات الإسرائيليّة 50 عمارة سكنيّة في حيّ الشجاعيّة ودمّرتها.ا