محمود جودة
مؤلّف المجموعتين القصصيّتين ”غزّة اليتيمة“ و-”رسائل إلى بغداد“، ورواية ”حديقة السيقان“.ا
(1)
:صباح السابع من أكتوبر، نشر الكاتب عبر فيسبوك صورة لصفحةٍ من روايته “حديقة السيقان”ا
ا… حتّى تجمّعتْ كلّها في قناةٍ واحدة وراحت تتدفّق على حديقة السيقان، كان التدفّق شديدًا للغاية تشقّق له الطين، وكأنّها القيامة قد قامت، وقتها حدثت زلزلة كبيرة في الأرض، خرجت على إثرها السيقان والأقدام والأحلام والدموع التي ما زالت ساخنة، والأصابع والأشلاء المزروعة في الإطارات، وأخذت تتشكّل على هيئة جسمٍ عظيمٍ، جسمٌ له آلا الأرجل والأيدي، والرؤوس والعيون، وراح ذلك الجسد العملاق يدبّ فوق الأرض معلنًا بدء مسير العودة الحقيقيّ إلى البلاد المسروقة، لم يمنعه الرصاص، ولا قذائف الدبابات، ولا قصف الطائرات الشديد من التقدّم، لقد كان جسدًا عظيمًا عماده آلاف القتلى والجرحى والثكلى ومساده من الدماء والأرواح والدموع، والذكريات وألم عشرات السنين وأوجاع الجدات والأمهات، وذلّ الآباء ومعاناة اللجوء.. راح الجسد يمشي ناحية الشرق، ناحية الشمس، ناحية الحنين، ناحية الحقيقة، يتنسّم عبق البرتقال، وهواء حيفا ويافا وأسدود وبئر السبع والقدس، وسارت الجماهير خلفه محتمية به، تهتف من حناجر مجروحة تسيل منها الدّماء: "عائدون.. عائدون."ا
كان حسن يصرخ: "ها قد صار الحلم حقيقة.. ها هي الأقدام تكتمل، وتنهض لتكمل خطوتها الأولى.. إنّه الأبد، إن المستحيل يتحقق".ا
(2)
رسالة إلى حفيدة المسنّة الإسرائيليّة المأسورة، نُشرت يوم الثامن من أكتوبر
إلى "أدفا" الإسرائيلية!ا
جدتك يا "أدفا" قضت بيدها على حلم جدتي خضرة التي ماتت وهي بعمر الثمانين وصنعت مأساة ممتدة إلى اليوم.ا
جدتي خضرة يا "أدفا" كانت تحب هذه البلاد أكثر من جدتك بكثير لأنها مولودة فيها ولونها يشبه تمامًا لون ترابها واسمها خضرة وليس "ياڤي"ا
جدتي يا "أدفا" ماتت أمام عيني وقتها كنت طفلًا صغيرًا لا يعي معنى كلام الجدة وهي تنازع الروح وتقول "وَدوني عَ الدار" يومها لم أفهم مقصدها فقلت لها بسذاجة الأطفال: "أنت في الدار يا جدة" ثم عاودت جدتي كلامها بصوت محروق، وقتها وقعت في حيرة ورحت أنظر في عيون الحاضرين حتى جاءت عيني في عين أمي زكية التي كانت تحضن جدتي فقالت لي وهي تبكي: "جدتك قصدها الدار اللي في البلاد يمّة"ا
الدار هي الحلم الذي قضت عليه جدتك "ياڤي" التي وقعت أسيرة بيد اللاجئين التي قضت جدتك على أحلام أجدادهم قبل 75 عام.ا
اطمئني يا "أدفا" على الأغلب جدتك بخير وتأخذ علاجها بانتظام؛ ولو كانت جدتي على قيد الحياة ربما طبخت لها بعض الطعام وسألتها عن البلاد وبئر المياه وشجرة التُمير، نحن كرماء جدًا يا "أدفا" لكن جدتك كانت سارقة أحلام.ا
أتمنى أن تقرأي هذه الرسالة يا "أدفا" لتعلمي شيئا مهمًا: أنتِ تعيشين على أنقاض حُلم جدتي وحاضري ومستقبل أبنائي وسوف نعود للحقيقة موتى، أحياء، أرواح، صور، ذكريات، عائدون، طالعون من كل مكان، وفكرة، وقدرة بأمارة ما جاء بجدتك إلى غزة.ا
عائدون يا "أدفا" ليس شعارًا، بل يقين ممتد من روح جدتي، إلى الروح التي ستخرج من رحم ابنتي بغداد ليمتد اليقين فيصبح أطول من مدى الخلود، وأبعد من حدود الأبد.ا
(3)
نُشر يوم الرابع من نوفمبر
كانت تقف السيدة في طابور الخبز لعدة ساعات، بينما طابور الرجال توقف لعدة مرات آخرها عندما تعارك رجلين على دور متقدم للحصول على ربطة الخبز، قام بعض الرجال بتحييد المتعاركين حتى قام أحدهم بنثر النقود والخبز في الهواء وهو يصرخ:"ولكوا مش إحنا اللي بنقتل بعض على ربطة خبز" ثم بكى.ا
بعد ذلك صمت الشارع كله وصار الجميع ينظر في عين الجميع، هذا الصمت يشبه تمامًا صمتنا عندما نسمع صافرة الصاروخ وهو قادم نحو هدفه. لكن هذه المرة لم يكن صاروخًا كان صراخ السيدة التي تركت طابور الخبز وراحت ماشية تنوح بصمت وكبرياء آخذة في يدها ابنها الصغير قائلة له: "تعال يا ماما بلاها لقمة الذل"ا
لم يمر أهل غزة بمثل هذا أبدًا لم يكونوا يومًا فقراء متسولين، لقد سكن أغلبهم في بيوت يملكونها وشقق وأحياء جميلة ويبتاعون أغراضهم بكل سهولة ويتفوقون في الدراسة والغناء ومواكبة الموضة، نحن في غزة لسنا من طين المعجزات ولا خوارق العصر الذي ينظم فيهم الشعراء أمانيهم العاجزة، نحن في غزة اُناس عاديين، نطرب للموسيقى، نكذب، نرقص، نحب الظفائر والفطائر والفُسح، نحن بشر، نخطئ، نشتم، ونبكي، لا تنظروا إلى الأمهات اللواتي يزغردن في الجنازات، هؤلاء نسوة أفرغن الدموع زغاريد، نسوة طارت عقولهن مع أول نقطة دم سالت من أجساد أولادهم الصغيرة.ا
والله نحن بشر نحب الحياة ولسنا من جلمود الصخر، بل بشر من طين وماء والكثير من الكرامة.ا
[محمود لا زال يكتب من بيته في رفح]